السيناريوهات المطروحة
فاز الإخوان المسلمون بأكثرية واضحة في انتخابات مجلس الشعب الذي تلا ثورة يناير ثم نجحوا في إنجاح مرشحهم للرئاسة بأغلبية طفيفة بعدها بعدة شهور. وأمسى واضحاً أن الإخوان المسلمين سيكونون القوة السياسية الكبرى والمرشحة للهيمنة على المجال السياسي المنفتح بعد سقوط نظام مبارك. ورغم أنه قد يكون من المبكر القطع بالتفاصيل النهائية للسياسات التي سيتبعها حزب الإخوان المسلمين إذ أن الأمر سيكون متصلاً اتصالاً وثيقاً بطبيعة المرحلة الانتقالية، وطبيعة نظام الحكم الآخذ في التشكل، إلا أن التحدي الأكبر الذي سيواجه الإخوان المسلمين هو كونهم حزب أغلبية في لحظة من الأزمة الاجتماعية والاقتصادية المركبة. ولا شك أن فرص بقائهم حزباً يحظى بالأغلبية ويهيمن على المجال السياسي الناشئ ستعتمد على قدرتهم على بناء تحالف اجتماعي يترجم إلى قواعد انتخابية، وسينعكس مثل هذا التحالف على طبيعة السياسات العامة بكل تأكيد وعلى المؤسسات التي تنظم العلاقة بين الدولة والمجتمع أي ببساطة على إعادة توزيع الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية بعد الثورة. وهي بالمناسبة العملية التي يشير لها الكثيرون بإعادة بناء الدولة في مصر ما بعد الثورة.
ولإدراك طبيعة التحديات التي تواجه أية أغلبية جديدة ينبغي إعادة تقييم ما وقع في يناير وفبراير 2011 وما تلاه من أحداث ووقائع. فإن المتابع المدقق ليرى أن التوصيف السليم لما وقع هو أن نظام مبارك قد انهار على يد انتفاضة شعبية عارمة غير منظمة وبلا قيادة واضحة، ولم تسقطه قوة سياسية معينة راغبة أو طامعة في الاستيلاء على السلطة وإحكام السيطرة على الدولة. ولعل هذا هو ما يفصل ما وقع في بلد كمصر عما حدث في إيران في 1978/1979 فيما اصطلح على تسميته بالثورة الإيرانية. فقد قاد الثورة فصيلان رئيسيان وهما اليسار الشيوعي/الاشتراكي/ المجاهدون من جانب، واليمين الديني الممثل في الحوزة من جانب آخر الثورة على نظام الشاه. واستخدم الطرفان، وخاصة الحوزة الدينية، الجماهير الغفيرة في المدن في التظاهرات التي انتهت إلى الإطاحة بنظام الشاه ثم اندلع صراع سياسي/عسكري بين الفصيلين أفضى إلى استحواذ الحوزة الدينية على الدولة في مطلع الثمانينيات. أما في مصر فإن أيا من القوى السياسية الرسمية أو غير الرسمية صممت لاستخدام الاحتجاج الواسع النطاق لإسقاط النظام. وإنما أتت انتفاضة يناير كامتداد طبيعي للاحتجاج الاجتماعي والاقتصادي الذي استشرى منذ 2004/2005 في صورة إضرابات واعتصامات غير مسيسة في أوساط عمالية وكذلك بين موظفي الدولة، وللاحتجاج السياسي الذي قادته شرائح من الطبقة الوسطى في صورة حركات ككفاية والجبهة الوطنية للتغيير وحملة البرادعي وغيرها. ولكن مرد الاحتجاج الواسع الذي أسقط النظام كان الحركة الاجتماعية/الاقتصادية غير المسيسة وغير المنظمة، والتي تحركت عفويا وبشكل مكثف للغاية منذ 28 يناير، وتبنت المطلب السياسي المنحصر في إسقاط مبارك وعائلته حتى تحقق في 11 فبراير 2011.
استمرت الاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية، وظلت الهموم اليومية هي المسيطرة على تصورات القطاعات العريضة من الشعب المصري ممثلة في الأمن والمفهوم الغامض للعدالة الاجتماعية. ولكن المجال السياسي الآخذ في الانفتاح والتشكل لم يعكس هذه الهموم والمطالب، والتي ظلت تعاني من عدم التنظيم والتجزؤ وسرعان ما دخلت في خصومة مع أطراف المجال السياسي كافة منذ مارس وإبريل 2011 بوصف الاحتجاجات العمالية بالفئوية ونعتها بالفوضى واعتبارها تهديدا لمسيرة الثورة بل ومن عمل فلول الحزب الوطني وأمن الدولة. كان المجال السياسي الجديد منذ نشأته محافظا للغاية، وغير متجاوب قط مع المطالب الاجتماعية والاقتصادية التي تستلزم تحولات جذرية قد تسبب مزيدا من الاضطراب. وبما إن المرحلة الانتقالية قد أديرت بالكامل وربما بشكل منفرد من قبل المجلس العسكري فإن ما تبقى من نظام يوليو هو من كان يرسم ملامح نظام ما بعد مبارك فلا عجب أن كان محافظاً ومتحفظاً بشدة. انصبت المفاوضات على المسائل الإجرائية وثيقة الصلة بمشاركة العمل السياسي دون القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي نظر إليها باعتبارها جزئية أو مهمة ولكنها تأتي بعد تصميم النظام السياسي الجديد. ومن هنا أتت التعديلات الدستورية واستفتاء 19 مارس ثم قصر تغيير الأطر القانونية على قانون الأحزاب والانتخابات البرلمانية والرئاسية فحسب. فيما بقيت قوانين النقابات العمالية والمهنية والجمعيات الأهلية والأوقاف والمواد الخاصة بالإعلام في قانون العقوبات كما هي دون تغيير يذكر، بالطبع مع استمرار العمل بقانون الطوارئ والمحاكمات العسكرية. ومحاكم أمن الدولة. ثم صدرت مراسيم تجريم التظاهر والإضراب وحظيت بقبول من غالب القوى السياسية وقتذاك باستثناء تلك اليسارية وتنظيمات الشباب الثورية التي لم يكن لها نصيب ولا حظ في النظام السياسي الآخذ في التشكل من الأصل.
يبدو جليا أن النظام السياسي الجديد كان مقدرا له من الأصل تحقيق صيغة ما من التعايش والمواءمة بين ما بقى من نظام يوليو والنخبة الحزبية الجديدة، والتي يعتبر الإخوان أكبر مكون فيها. ولا تقوم هذه المواءمة إلا على تحديد نطاق ضيق للتغيير مع الاتفاق المسبق على محتواه.
ويأتي من وراء هذا التوافق الهش بين النظامين الجديد والقديم دعم من قوى إقليمية ودولية تريد استمرار دور مصر الجيوسياسي كما هو دون تغيير كبير. وهذه كلها عوامل تسهم في بقاء الوضع كما هو عليه. ولا تزال الخلافات الدائرة داخل المجال السياسي سواء حول هوية الدولة (في علاقتها بالإسلام) بين العلمانيين والقوى الإسلامية أو حول دور المؤسسة العسكرية بعيدة كل البعد عن المطالب الاجتماعية والاقتصادية. وهذا بالطبع لا يعني أن التحولات السياسية منبتة الصلة عن التحولات الاقتصادية والاجتماعية، وإنما ترد الملاحظة في سياق لفت الانتباه إلى عدم مراهنة أي من القوى الكبرى على أجندة تغيير اجتماعية أو اقتصادية كأداة للتواصل مع الجمهور، وتفضيل استقطابات هوياتية عليها تنجح في الحشد والتعبئة، ولكنها نادراً ما تخاطب المطالبات المادية. ومن هنا يمكن القول بشكل عام إن النظام السياسي الجاري إنشاؤه مصمم لعزل المطالبات الاقتصادية والاجتماعية بدلا من التعبير عنها. وبالتالي فمهمته -من حيث توافق اللاعبين الكبار على أسس اللعبة- هو الإبقاء على أبعاد النظام الاجتماعي الكبير بما فيه من علاقات سلطة وثروة ولكن بشرعية نابعة من الانتخاب ومن الالتزام بإجراءات العملية الديمقراطية بدلا من الاستبداد. وهو ما يجعل الصيغة الجديدة هشة وضعيفة للغاية لا فحسب لعمق التناقضات بين الفاعلين الذين يتصنعون التوافق وإنما كذلك لاستمرار الاحتجاج الاجتماعي والاقتصادي -غير المسيس وغير المنظم- والذي يقوض دعائم السلطة –لا السلطوية فحسب بل أي سلطة- ويفرض نفسه بشكل مدمر على أي نظام سياسي جديد يبغي نمطاً ما من الديمقراطية المحافظة التي تقصر التغير في "السياسي" ولا تقرب "الاقتصادي والاجتماعي".
إذا ما خرج إلينا المشهد على هذه الشاكلة فإن المستقبل المرجح للسياسات العامة الاقتصادية والاجتماعية في ظل الأغلبية الإخوانية سيتجلى في ثلاثة سيناريوهات:
السيناريو الأول: استمرار الأزمة حتى حين
إن استمرار الأزمة على المدى المباشر هو الاحتمال الأرجح حيث ينشأ نظام سياسي غير فاعل نتيجة للتوازنات الهشة والمتوترة بين العسكري والأجهزة الأمنية من جانب والإخوان من ناحية أخرى، في ظل وجود بيروقراطية غير كفئة وغير فاعلة وربما معارضة للنخب الجديدة، ويضاف إلى هذا استمرار الاحتجاج الاجتماعي والاقتصادي، وتفاقم أزمة الدولة المالية لتدبير موارد تحول دون انفجار الوضع الاجتماعي.
وهذه الوضعية هي الأشد احتمالاً في السنوات القليلة القادمة حيث من المنتظر أن يكبل الإخوان أنفسهم بترتيبات تحفظ كثيراً من المصالح المحلية والإقليمية والعالمية على نحو يقلل من المساحة المتروكة للتغيير. ويضاف إلى هذا الظرف أن تستمر رؤية الإخوان لأنفسهم كجماعة/طائفة تبحث لنفسها عن دور في طور التمكين، ويتحول مشروعها السياسي إلى الاستيلاء على الدولة من خلال تغلغل البيروقراطية الحكومية، وإحلال رجال أعمال محل غيرهم في شبكات السلطة/الثروة، وتصميم الدستور والقوانين على نحو يضمن إعادة إنتاج الأغلبية الإخوانية، وربما يصل الأمر في ذروته إلى الاستيلاء على أجهزة إنفاذ القانون وخاصة الشرطة وربما القضاء لتحييد الخصوم السياسيين وضبط إيقاع العمل السياسي. ويتماشى مع هذا إعادة إنتاج مصالح المؤسسة العسكرية والمخابرات والتعايش معها لمدة من الزمن. وهو ما من شأنه أن يقلل من القدرة على إجراء تغييرات اقتصادية أو اجتماعية واسعة حتى لا تدخل الجماعة في صدامات مع قطاعات متعددة تقوض من فرصها في البقاء في السلطة، أو من فرصها في الاندماج في العلاقات الإقليمية والعالمية القائمة. وستقوم إستراتيجية الإخوان في هذا السيناريو على الاستثمار الكثيف في القضايا الهوياتية (مع مراعاة الحدود الطائفية حتى لا يتهدد النظام والسلم العام)، وكذلك الاعتماد على شبكات الزبونية والمحسوبية- والتي ستزيد بالسيطرة على قسم من الموارد العامة- وبعض الإجراءات الشعبوية من حين لآخر لكسب التأييد في مواسم الانتخابات العامة والمحلية.
الإشكال الأساسي في هذا السيناريو-الذي قد يكون قد بدأ بالفعل- هو أنه غير مرشح للاستمرار طويلاً لأنه لا يقدم أي جديد في إدارة أزمة الدولة المالية من ناحية، وأزمة خروج الاحتجاج للمجال العام من ناحية أخرى. بل إن وضعية الأغلبية الإخوانية في هذا السيناريو ستكون أشد ضعفاً من نظام مبارك لأن دور الجماعة السياسي سيكون رهنا باستمرار شرعيتها الديمقراطية عبر الانتخابات من ناحية، وتلبية المطالب "الفئوية" من ناحية أخرى. وبينما الأول سيعرض الجماعة لغضب الجمهور وقد يقصيها عن السلطة باعتبارها قد فشلت في إحداث التغيير المرجو، فإن الثاني لن يكون متاحا دون حل أزمة مالية الدولة إما بتخفيض الإنفاق (والقضاء على المطالب الفئوية الاقتصادية من الاصل وهو ما يستدعي بناء جهاز قمعي) وإما بزيادة الإيرادات (عن طريق التوسع في الضرائب المباشرة بما يحمله هذا من صراع مع شرائح ثرية كالتجار والصناع وأصحاب رأس المال). وفي ظل غياب دولة قمعية –على أساس أن الديمقراطية هي أساس شرعية نظام ما بعد مبارك وأغلبيته الإخوانية- فإن النظام الجديد سيتقوض على يد اضطرابات اجتماعية غير مسيسة ومنتشرة كتلك التي نعايشها منذ الإطاحة بمبارك. وبالتالي فإن استمرار الأزمة سيكون حتى حين وهو حتماً إلى نهاية قريبة بحكم أن الاحتجاج الجماعي في مصر قد قضى بالفعل على نظام سلطوي وأبدله بترتيب أقل سلطوية. فأين قد يذهب الإخوان إذا استحكمت الأزمة وقرروا تبديل الإستراتيجية؟ يحيلنا هذا إلى السيناريوهين الآخرين.
السيناريو الثاني: من أزمة اليمين إلى الفاشية
ينطلق السيناريو الثاني والثالث من تفاعل الأزمة المذكورة أعلاه، واضطرار الإخوان باعتبارهم أغلبية إلى التحرك لضمان تأييد قواعدهم الانتخابية. وفي هذا التحرك رسم تحيزات واضحة –وهو ما يرفضه الإخوان إلى الآن- والإلقاء بالدولة المصرية محل الإنشاء والبناء في قلب الصراع الاجتماعي على توزيع الموارد وإنتاجها إما بالميل يمينا وإما بالميل يسارا. ولنتذكر جيدا أن محافظة الإخوان المسلمين ليست قائمة على قناعة أيديولوجية وأن الخطاب حول القضايا الاقتصادية والاجتماعية ملئ بالتناقضات التي تسمح بالميل من جديد بغية الإبقاء على السلطة في مجال تجرى فيه انتخابات حرة.
فأما السيناريو الثاني فهو التحول لليمين. ومفاده أن يقرر الإخوان الحفاظ على توزيع السلطة والثروة كما هي وتسخير سيطرتهم على الدولة من أجل هذا. وهذه مقدمة مشروع فاشي لا يمكن أن يتم إلا بالتعاون والتحالف مع المؤسسات الأمنية والعسكرية والاستخباراتية من جانب، وبتأييد من قطاعات من الطبقة الوسطى والوسطى العليا من جانب آخر. وسيكون موجها بالأساس نحو المطالبات العمالية غير المنظمة وغير المسيسة بغرض قمعها بدلا من رشوتها لعدم توفر الموارد العامة نتيجة لاستمرار أزمة الدولة المالية. وفي هذا السياق يكون الخيار الفاشي نابعاً من تقدير القيادات الإخوانية أن الانحياز ضد الفقراء المحتجين أرخص تكلفة من نقض التوافقات السابقة التي بمقتضاها حدث النقل السلمي للسلطة. وهذا السيناريو في نظري مستبعد بشدة لأنه يستوجب إرهاب دولة على غرار ما وقع في شيلي أو الأرجنتين في السبعينيات. وهو ما لم يعد ممكنا بعد انتهاء الحرب الباردة، وتكلفته البشرية والمادية والسياسية باهظة للغاية. وعلاوة على هذا فإن الصراع الطبقي في مصر غير متبلور ولا منظم، والضغط الشديد الموضوع على النظام السياسي في السنوات القليلة الماضية آت بالأساس من التصور الأبوي الراسخ لدى العديد من الفقراء – سواء أكانوا عمالا أم لا- والذين يرون أن شرعية الحاكم –سواء أكان مستبداً أو منتخبا- نابعة من إجابته لطلباتهم الأساسية. وفي ظل وضع مصر التنموي والاجتماعي فإن هذا الاقتصاد المعنوي الأبوي من شأنه أن يستمر ليشكل أكبر مصدر لشرعية الحاكم. وإضافة لهذه المحظورات جميعاً فإن اللجوء لسيناريو فاشي بهذا الشكل المفضوح لن يترك للإخوان المسلمين مكاناً في المجال السياسي لأنه سيقوض مصدر شرعيتهم الانتخابية، وسيقضي على أكبر أدواتهم وهو الحشد والتعبئة السلمية. لذا فهو مستبعد كمخرج للأزمة.
السيناريو الثالث: من يمين الوسط إلى يسار الوسط
أما السيناريو الثالث فهو أن تختار قيادات الإخوان التعامل مع الأزمة الاجتماعية -ذات الانعكاس المالي والسياسي- بالعمل على تغيير إستراتيجيتهم المحافظة. وذلك بالعمل على صياغة تحالف اجتماعي جديد يؤسس للقواعد الانتخابية مستقبلا. ويجب أن يكون هذا التحالف تنمويا بحيث يضمن تبني السياسات وإيجاد الترتيبات المؤسسية الكفيلة بتوليد التنمية وتوزيع عوائدها على شرائح وفئات اجتماعية عريضة تستمثر في أغلبية الإخوان فيما بعد. وسيكون المرشحون لمثل هذا التحالف بالأساس الطبقات الوسطى التقليدية (من موظفي الدولة وصغار التجار ومالكي الأعمال متوسطة وصغيرة الحجم) والوسطى العليا (التي نشأت نتيجة لاندماج مصر في الاقتصاد العالمي منذ السبعينيات) وفئات من العمال بالقطاعين العام والخاص وربما في القطاع غير الرسمي علاوة على أصحاب رأس المال في قطاعات كالصناعة التحويلية والتجارة والخدمات. وهو بالطبع تحالف فضفاض وواسع للغاية ويحوي العديد من التناقضات ويتطلب توازنات لحفظه. ولكن هذه هي سمة أحزاب الأغلبية على أن حضور العمال والطبقة الوسطى التقليدية والشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم في قلب التحالف –بحكم الأغلبية العددية- كفيل بأن يجعل من حزب الإخوان حزب يسار وسط وليس يمين وسط، ويدفع به إلى حالة كحزب العمال بالبرازيل بدلاً من العدالة والتنمية بتركيا.
بيد أن نجاح مثل هذا التحالف يتطلب عدة خطوات مناقضة بالكامل لإستراتيجية "الصبر والتمكن" التي يتبعها الإخوان حالياً، والتي تقتضي التعايش مع العديد من المصالح القديمة من ناحية، والحفاظ على ترتيبات الثروة والسلطة من ناحية أعمق. كما يتضمن الاستثمار في الحريات على مستوى القاعدة – خاصة في النقابات واتحادات الطلاب والجمعيات- كقوام للتحالف الاجتماعي الواسع الذي يتجاوز الجماعة كتنظيم إلى حزب الحرية والعدالة كحزب أغلبية مهيمن. والسياسات المتصورة لبناء مثل هذا التحالف تشمل الآتي مثالا لا حصرا:
• تفكيك الترتيبات المؤسسية لرأسمالية المحاسيب الموروثة من عهد مبارك لصالح رأسمالية تنافسية قادرة على إنتاج نظام سوق حقيقي يولد نموا ويخلق فرص عمل ذات إنتاجية وأجور مرتفعة تحسن من مستويات المعيشة لفئات عريضة من العمال والطبقات الوسطى. وهو ما يستوجب إصلاح الجهاز البيروقراطي والمصرفي وإعادة رسم علاقات تربط بين الدولة ورأس المال الكبير في صيغة ائتلاف تنموي وليس شبكة توزيع الريع. بالإضافة للمضي قدما في إجراءات مقرطة حقيقية في مجالات الشفافية وتداول المعلومات والإعلام. ومن شأن هذا بالطبع أن ينزع الكثير من الأصول الإنتاجية من التداول خارج علاقات السوق (كالأراضي على سبيل المثال التي تتخذ دولة بين الجهات السيادية أو القطاعات المحجوزة للمؤسسة العسكرية والاستخبارات كالبترول والغاز الطبيعي والاتصالات). كما تتطلب تفكيك شبكات توزيع الريع وإعادة تخصيص الموارد على نحو آخر أكثر تنموية.
• إعادة توزيع المخصصات في الإنفاق العام لصالح الطبقات الوسطى والعمالية عن طريق الاستثمار في التعليم والرعاية الصحية والرعاية الاجتماعية بدلاً من سياسات الدعم المباشر التي كانت سائدة في عصر السادات ومبارك من حيث دعم الطاقة أو التوسع في التعيينات الحكومية. وفي مقابل تخفيض أوجه الدعم هذه يتم تخصيص الجزء الأكبر منها للتعليم والتدريب الفني والرعاية الصحية والحماية الاجتماعية. وهي إجراءات ستطال بلا شك العمال في القطاع الرسمي (العام والخاص) وكذا الطبقات الوسطى العاملة في وظائف بأجر. وقد تتسع لتطال قطاعات من العاملين في القطاع غير الرسمي. وهذا بالطبع لا يعني سحب الدعم من فقراء المدن والريف والمتمثل في الأساس في دعم الغذاء. وإنما سيعني سحب الدعم الحكومي عن شرائح من الطبقة الوسطى (كمستهلكي البنزين 92 و95 والكهرباء) بالإضافة لكبار المستثمرين في الصناعات الثقيلة وكثيفة الاستهلاك للطاقة وكذا الاستثمارات الأجنبية في هذه القطاعات.
• لا شك أن إعادة تخصيص الإنفاق العام يتطلب بناء تحالف اجتماعي للمستفيدين في مواجهة الخاسرين. وهو ما لن يكون متاحا سوى ببناء تنظيم حزبي قوي يتجاوز صيغة الحرية والعدالة القائمة، والذي يبقي مركز الثقل الحقيقي في الجماعة المغلقة وغير القانونية. وكذلك بإطلاق الحريات النقابية سواء المهنية أو العمالية على افتراض أن استثمار الإخوان في حرية التنظيم النقابي سيحقق لهم الهيمنة بحكم تفوقهم التنظيمي، وينتهي بهم إلى صيغة نقابية على النمط البيروني الأول في الأرجنتين. أي حزب يرتبط بعلاقات كوربوراتية مع تنظيمات نقابية توفر له القواعد العمالية والمهنية.
• حال نجاح تخصيص الموارد حقا للاستثمار في الموارد البشرية (تعليم وتدريب وصحة وحماية اجتماعية) فإن هذا سيسهم في خلق مزية تنافسية للاقتصاد المصري تحله من الاعتمادية المزمنة على مبيعات المواد الخام إلى أنماط ذات قيمة مضافة أعلى سواء صناعية أو خدمية. وهو ما من شأنه أن يحسن من مستويات المعيشة بشكل عام، وينعكس إيجابا على الكثيرين. ومن شأنه كذلك أن يدمج شرائح واسعة من الطبقات الوسطى التقليدية والعمال في الاقتصاد العالمي على نحو إيجابي بدلاً من الاستبعاد الذي لحق بهم في العقود الماضية نتيجة ضعف التعليم وعدم القدرة على المنافسة.
• بيد أن التحالف هذا يفترض إجراءات لإعادة توزيع الدخل من خلال التوسع في الضرائب التصاعدية لتطال الفئات الأكثر ثراءاً، وخاصة المنتجين من صناع وتجار في القطاع الخاص الذين زاد نصيبهم في الناتج مع تحول مصر للقطاع الخاص ولم يزد إسهامهم بحال في الإيرادات الضريبية. وهو ما من شأنه أن يلقي بالدولة في خضم صراع طبقي آخر مع الفئات الأشد ثراءاً لصالح الفئات الوسطى والعمالية. وغنى عن الذكر أن هذا سيضيف ملمحاً يسارياً آخر للأغلبية المرتقبة.
• قد يثور التساؤل حول موقع الطبقات الوسطى العليا في مثل هذا التحالف الذي يخصم ضرائب مرتفعة على الدخل. والجواب هو أن الطبقات الوسطى العليا قادرة على التعايش اقتصادياً مع نسب مرتفعة من الضرائب مقابل خدمات عامة أفضل، ومقابل مؤسسات أقل فساداً وأكثر تمشيا مع نماذج الاقتصادات التنافسية في العالم. ولعل هذا هو السبب الرئيسي وراء تأييد الكثير من أبناء هذه الطبقات للاحتجاج ضد مبارك من الأصل رغم أن وضعها الاقتصادي كان قد تحسن كثيراً بعد عقدين من الإصلاحات النيوليبرالية.
• أما عن رأس المال فمفترض أن يكون ثمة تحالف ما بين الدولة ورأس المال الكبير ولكن على نحو مؤسسي وشفاف يقلل من فرص المحسوبية والفساد ويزيد من الكفاءة. وقد تصل الأغلبية لمثل هذه الصيغة من خلال التمثيل الجماعي لرأس المال الكبير على أساس قطاعي أو قومي حيث تنتفي الصلات غير الشفافة المباشرة والمنفردة بين شركات أو رجال أعمال بعينهم وبين الحكومة أو الحزب الحاكم لصالح تمثيل نقابي لرأس المال الكبير. وهو ما تحقق في الحالة التركية على سبيل المثال في حالتي التوسياد والموسياد، واللتان أثبتتا أن تكتل رأس المال الوطني الكبير في أطر مؤسسية يسهم في زيادة قدرة بيروقراطية الدولة على جمع المعلومات وإدارة الموارد وتفويض وظائف التنظيم الذاتي لهذه المنظمات لممارسة الرقابة على أعضائها. وينبغي الأخذ في الاعتبار أن تحالفاً جامعاً بين الفئات الوسطى والوسطى العليا ورأس المال في إطار نظام السوق الاجتماعي لا يفترض التحيز ضد رأس المال الكبير بحال من الأحوال بل المسألة تتمثل في توصل الدولة لاتفاق مع رأس المال الكبير بخصوص نموذج التنمية. ومربط الفرس هو قبول رأس المال الكبير للإسهام طويل المدى في الاستثمار في الموارد البشرية من تعليم ورعاية صحية وحماية اجتماعية على اعتبار أن هذا يضيف لقدرته على التنافسية والإنتاج مستقبلاً.
• استناداً لما تقدم فإن تكوين تحالف اجتماعي واسع على هذا الغرار أمر يمثل أحزاب يسار الوسط الكبيرة، والتي تعتبر أحزاب مستدفة لتحالفات مجاوزة للطبقات Cross-class. ولا تعتمد هذه الأحزاب على توجهات أيديولوجية معينة بل تميل لبناء تحالفات توزيعية على أساس المصالح، وفي خطابها السياسي تستهدف شتى الفئات Catch-all Parties. والتحالف المشار إليه في الحالة المصرية هو تحالف ملئ بالتناقضات، ولكنه قابل للاستمرار ببعض المهارة والحنكة التي يجب وأن تنعكس في الترتيبات المؤسسية التي سيتم من خلالها تمثيل المصالح الاجتماعية المتضاربة. ولكنه يحتاج قبل كل شيء لسماسرة سياسة Political Brokers قادرين على التوفيق بين المصالح الاجتماعية المتعارضة في نفس التحالف السياسي.
تعود السياسة إلى مصر بعد ستين سنة من مصادرتها بفتح المجال السياسي للمنافسة. وعلى الرغم من أن كل القوى الفاعلة والمؤثرة على التحول السياسي في مصر تمتاز بالمحافظة الشديدة، ولا تأمل سوى في ديمقراطية محافظة تضمن قدراً من المنافسة وتداول السلطة دون تجذير للحريات والحقوق لتشمل المطالب الاقتصادية والاجتماعية، إلا أن النظام الجديد سيخضع النخب الحاكمة لتناقضات جديدة وتحديات لم تتمثل لهم من قبل. وعلى رأس هذه التحديات هو ضمان شرعيتهم من خلال آليات انتخابية، والتسامح مع قدر من الحريات العامة وربما بعض التمكين للفقراء نتيجة التنافس على الأصوات والولاء بين الأحزاب. وبالأخذ في الحسبان المحافظة الاقتصادية التي اختارتها قيادات الجماعة كجزء من اختيارها لوراثة النظام الاجتماعي بتوزيع السلطة والثروة فيه دون تغيير كبير، فإن عبء التأسيس لهيمنة البرجوازية المصرية يقع على كاهلها. ولعل التحدي الأساسي هنا هو إعادة بناء الدولة في مصر لا بمعناه الإداري أو الفني وإنما بمعناه السياسي باعتبار أن الدولة هي عقد أو عهد ما للهيمنة والسيطرة بين حاكم ومحكوم. والمقصود هنا هو إدارة هذه القوة الصاعدة بماكينتها التنظيمية الهائلة لعملية توزيع الحقوق الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بعد الثورة. وسيكون التحدي الأكبر هو إيجاد ترتيبات مؤسسية تعكس المصالح الاجتماعية المتفاوتة والمتصارعة من جهة، وإيجاد نظام سياسي يدير الصراع الاجتماعي بشكل يقبل الحد الأدنى من التعددية والمنافسة الانتخابية، وبالتالي يغيب عنه القمع الأمني الذي حل ضيفاً ثقيلاً على المجال السياسي منذ نهاية الأربعينيات وحتى إحراق أقسام الشرطة في 28 يناير 2011.
ولن يحل مأزق البرجوازية التاريخي إلا بإتخاذ التحولات اللازمة لإتمام الانتقال الرأسمالي إلى نظام سوق حر تنافسي يحسن من شروط إدماج مصر في الاقتصاد العالمي. ولن يكون هذا سوى بتوجيه الاستثمار العام إلى الموارد البشرية، وتفكيك شبكات المحسوبية والفساد والمصالح النافذة التي تحتكر جزءاً كبيراً من الاقتصاد. ولكن لن يكون هذا كافياً لأنه سيكون ثمة حاجة لإنشاء تحالف مجاوز للطبقات يضم الخاسرين من التحول النيوليبرالي في عهد مبارك بدون إعادة إنتاج النظام الناصري اقتصادياً أي بالحد الأدنى من السياسات الشعبوية التوسعية. وهذا هو المأزق الرئيسي الذي طالما واجه البرجوازية المصرية: تقديم تبرير اجتماعي للرأسمالية. وهذا التبرير هو أساس شرعية النظام الاجتماعي الجديد في مصر، والذي يتجاوز استخدام الدين وحده التماساً للشرعية، كما يتجاوز الدعاية النيوليبرالية الفجة وغير المقنعة الخاصة بأن المكاسب ستوزع طبيعياً وتلقائياً من خلال آليات السوق. وبالطبع تتطلب أكثر من آلات الدعاية والاحتفال وشبكات الزبونية التي يملكها الإخوان حاليا. وهو ما يعيدنا مرة أخرى إلى قضية الدولة وإعادة بنائها. ومع تصاعد حدة الاحتجاج وخروجه للمجال العام فإن قضيتي أزمة الدولة المالية والحريات النقابية والعمالية ستتصدر الأجندة السياسية الفعلية في السنوات القليلة القادمة. وتحري حل لهما هو جوهر الثورة الاجتماعية في مصر إلى حد كبير بالنسبة للطبقات الوسطى العليا والوسطى التقليدية والعمالية. وعلى قدر ما أرى فإن هيمنة البرجوازية على المجال الديمقراطي الناشئ لن تكتب ليمين الوسط بل ليسار الوسط باعتباره الوحيد القادر على إيجاد نظام رأسمالي تنموي يحظى بشرعية شعبية.
فأما من أين سيأتي هذا اليسار فهذا متروك للتطورات في السنوات القليلة القادمة، ومقدار تفاعل الإخوان المسلمين مع السلطة التي حازوها ومع الأزمات التي ستنشأ نتيجة للوصول إلى السلطة في لحظة مأزومة للغاية. وستكون النتيجة رهنا كذلك بدرجة تماسك التنظيم عند إجابة الأسئلة الحرجة حول توزيع الموارد والانحيازات الطبقية. وسيكون الأمر على المدى المتوسط إما بالميل يساراً وإما بظهور قوة –غالبا ما ستكون من داخل المعسكر الإسلامي وربما الإخواني نفسه- تحتل موقع اليسار منه وتزاحمه على الهيمنة. وفي ضوء فشل القوى الثورية في إيجاد طرح ديمقراطي تلتف حوله حركة شعبية واسعة بديلاً عن الحركة الاحتجاجية المبكرة، وفي ضوء الفشل التنظيمي كذلك في إيجاد حزب أو ائتلاف من أحزاب يتبنى مثل هذا الطرح فليس من الممكن القول بأن الثورة مستمرة بقدر ما يمكن الحديث عن أن الأزمة مستمرة.